وهذا ما حدث للرئيس مبارك , لأن كل ما كان يمكن لمبارك أن يفاخر به باعتباره انجاز - بعد مرور 29 سنة – أصبح الآن منهاراً أو فى طريقه إلى الانهيار .
17-10-2010
( إذا طالت مدة بقاءك فى السلطة , فأنت تخاطر بأن ترى معظم منجزاتك , وهى تنهار واحدة بعد الأخرى بين يديك )
لذلك ينبغى علينا أن نفتح ملف ( شخصية الرئيس ), ليس بمنهج شخصى ؛ وإنما بمنهج علمى يسعى لتحليل الشخصية دون تجريحها, لأن مقام الرئاسة ينبغى أن يظل له كل التوقير والاحترام, ليس من أجل ذات الرئيس كشخص , وإنما من أجل مصلحة الوطن, إذ أن التوقير والاحترام هما جزء من المقومات التى تعين أى رئيس على مباشرة مهامه الدستورية .
وإذا كان الكاتب الكبير أنيس منصور , قد ابتكر فى الستينات مصطلح ( اعرف عدوك ), فإننا نجد أنفسنا فى عام 2010م وبعد مرور 29 عاماً على حكم الرئيس مبارك, مضطرين إلى صك مصطلح ( اعرف رئيسك ), لأن شخصية الرئيس فى أنظمة الحكم غير الديمقراطية, تعتبر جزءً أصيلاً من بنية الحكم, بل ربما تكون أحد أعمدته الرئيسية .
وربما لا يمكن الاقتراب بشكل صحيح من فهم شخصية الرئيس ؛ إلا من خلال فهم الأسباب الحقيقية التى استند إليها الرئيس الراحل السادات عند اختياره للرئيس مبارك كنائب له . ولعل كل الكتابات التى تحدثت عن تلك الأسباب دارت حول الكفاءة الإدارية والقيادية ؛ والشخصية الانضباطية والسمعة الممتازة التى كان يتمتع بها جميعاً الرئيس مبارك , بالإضافة إلى دوره الحاسم فى قيادة الضربة الجوية فى نصر أكتوبر .
ولا شك بأن الرئيس السادات باعتباره داهية عسكرية وسياسية , قد تيقن بعد انتصار أكتوبر بأن القوات المسلحة كان ينبغى أن تكون شريكاً له فى الحكم . لذلك كان لابد من اختيار أحد قادة نصر أكتوبر ليكون نائباً للرئيس, ولكن دهاء الرئيس السادات جعله يستبعد القادة الذين لهم شعبية كبيرة فى القوات المسلحة , وبالطبع كان قائد القوات الجوية هو الذى تتوافر فيه الصفتان ؛ فهو صاحب الإنجاز العسكرى غير المسبوق ( الضربة الجوية ), وهو من القادة قليلى الشعبية فى القوات المسلحة . فالقوات الجوية بعدد ضباطها وأفرادها تمثل نسبة محدودة من إجمالى تعداد الجيش المصرى, وبالتالى ليس لقائدها شعبية كبيرة على مستوى القوات المسلحة ككل.
إذن اختار الرئيس السادات؛ الفريق مبارك ؛ لأنه قائد منتصر ولكن قليل الشعبية . وبالتالى أتاح للقوات المسلحة أن تشاركه فى الحكم ؛ ولكن بدون إحساس بالخطر من شعبية من يمثل هذا الشريك .
أيضاً .. فإن ما يجعلنا نقترب أكثر من شخصية الرئيس, هو استرجاع أكثر التصريحات تلقائية التى صرح بها الرئيس فور توليه الرئاسة , وتمثلت فى الواقعة الشهيرة التى سأله فيها أحد المراسلين الأجانب حول ما إذا كان سيسير فى طريق الرئيس جمال عبد الناصر أم طريق الرئيس السادات, فأجاب الرئيس مبارك بتلقائية وسرعة بديهة بإجابة لامعة متألقة قائلاً : ماى نيم إذ حسنى مبارك ( أى اسمى حسنى مبارك ) .. وربما تكون تلك الإجابة بسرعتها وتلقائيتها تمثل بقعة ضوء ساطعة تضئ لنا الجانب الأكبر من شخصية الرئيس, لأنه لو تم توجيه ذات السؤال لأى رئيس فى دولة ديمقراطية , لكانت الإجابة التلقائية ستكون: ( سأسير فى الطريق الذى يحقق مصلحة الشعب ومصلحة البلاد ) , ولكن أن يرد الرئيس : بأن اسمه كذا, فان ذلك يوضح بأن السلطة فى ذهن الرئيس ما هى إلا ظل لذات الرئيس , بعكس ما ينبغى أن يكون فى أى نظام رشيد للحكم , وهو أن يكون الرئيس أحد ظلال السلطة وليس العكس .
والآن دعونا نسلط الضوء مباشرة على النقاط الـ ( 6 ) الحاسمة فى شخصية الرئيس :
1- الحكمة والتأنى :
أثناء استمرار أجواء التوتر بين مصر وليبيا فى بدايات الثمانينات , علق الرئيس مبارك على الذين فاض بهم الكيل من ممارسات وتصريحات العقيد القذافى قائلاً: ( لو كنت ماشى فى الشارع وعيل صغير رمى عليك طوبة حتعمله إيه ). وبالفعل ربما يكون عدم الانجرار خلف الصغار وصغائر الأمور من أهم مقتضيات الحكمة , ولذلك يشتهر الرئيس بين مؤيديه – بل وبين عامة الناس – بالحكمة والتأنى فى اتخاذ القرار وعدم التسرع والابتعاد عن العصبية المفرطة.
ولكن الحكمة تكون عنوان لرجاحة العقل عندما تنتج سياسات ناجحة , ولكن عندما تنتج سياسات غير ناجحة , فإنها لا تكون إلا قناع يخفى خلفه الميل للعناد واللامبالاة والتجاهل. ولعل سوء الأداء الحكومى الذى وصل إلى مداه الآن ؛ يثبت أن ما يحسبه البعض حكمة وتأنى , ما هو إلا لامبالاة وبطء فادح فى اتخاذ القرار . وكما يقول جان جاك روسو ( إن ثمار التروى تضيع إذا زاد التروى عن الحد ) … لأنه عندئذ سيكون أى شئ آخر غير التروى.
2- الاستقرار :
يذكر الكثيرون للرئيس مبارك أنه جنبنا – وسط منطقة ملتهبة من العالم – التورط فى حروب متعددة , كانت ستدمر البلد وتأكل الأخضر واليابس. وبالتالى فنحن مدينون للرئيس مبارك بالاستقرار الذى حققه لمصر طوال 29 عاماً .
وبالفعل ربما يكون الاستقرار محموداً عندما يصبح سياسة لمصلحة الوطن , ولكنه يصبح مشكوكاً فيه عندما يصبح وسيلة للحفاظ على السلطة واستمرارها . وبالطبع يحق لنا أن نشك فى هذا الاستقرار الناتج عن تجنب الحروب ؛ طالما كانت النتيجة المتحققة منه مساوية لذات نتائج الحروب. بما يعنى أن هذا الاستقرار كان مكرساً لاستمرار الجلوس على الكرسى ؛ وليس مكرساً لمصلحة الناس والوطن .
وبالتالى .. فإن تجنب الدخول فى الحروب – رغم إنه ميزة كبيرة – إلا أن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى , ونية الرئيس تؤكدها الممارسات , فتعيين نائب للرئيس أمر بلا شك يرعى الاستقرار , وتعزيز التطور الديمقراطى فى مصر أمر يدعم الاستقرار , وفك الارتباط ما بين السلطة والثروة أمر يرعى الاستقرار , والتقريب بين الدخول أمر يرعى الاستقرار .. الخ .
ولكن لأن كل هذا – وبعد 29 سنة – لم يحدث , فإنه يصبح من حقنا أن نشكك فى النوايا الكامنة خلف هذا الاستقرار .
3- الديمقراطية فى ذهن الرئيس :
هناك مقولة شهيرة للرئيس الكوبى فيدل كاسترو ؛ قالها تعليقا على معارضيه الذين كانوا يوجهون له سهام النقد لعدم إجراء انتخابات للرئاسة , فرد عليهم قائلاً : )أتعجب من الذين يريدون إجراء انتخابات للرئاسة ؛ لقد سبق للشعب وأن اختار كاسترو ) . فالشعب في ذهن كاسترو كيان جامد لا يتغير ويكفيه أن يختار مرة واحدة . وربما يقترب منطق الرئيس مبارك الديمقراطى من ذلك المنطق الكوبى . فالرئيس مبارك يرى بأن الشخص طالما ظل قادراً على العطاء فليبق فى مكانه مهما طالت المدة . وهو منطق – وبكل الأسف – يتصادم مع المبادئ الديمقراطية ، لأن الفكر الديمقراطى يرى أن تداول السلطة مثلما يتم باختيار الجماهير , فإن البقاء فى السلطة أيضاً ينتهى بالتشريعات التى أقرتها الجماهير والتى تضع سقفاً لا ينبغى تجاوزه لمدة البقاء فى السلطة , بما يمنع من تكوّن دوائر من الفساد حول مركز السلطة.
الديمقراطية – إذن – فى ذهن الرئيس مبارك ليس لها مكان إلا بالقدر الذى يجمِّل صورة النظام, وما يثبت ذلك هو أن الواقع فى مصر أكد ويؤكد أن ممارسات الفساد الفجة التصقت برجال الوزراء الأكثر بقاءً فى السلطة , مثل : رجال وزير الإعلام ( الأسبق ), ووزير الزراعة (الأسبق ), ووزير الثقافة ( الحالى ) . مما يؤكد بأن طول البقاء فى السلطة يؤدى إلى تراكم دوائر من النفوذ التى يتنامى بداخلها الفساد . إلا أن الرئيس مبارك – رغم كل ذلك – ظل أميناً لمبدأه الديمقراطى , بأن البقاء فى السلطة متاح بدون حد أقصى طالما توافرت القدرة على العطاء!!! وبالتالى يكفل الرئيس هذا المبدأ لمنصب الوزير كما يكفله لمنصب رئيس الجمهورية.
4- الخلفية العسكرية :
ربما تمثل الخلفية العسكرية جانب هام فى شخصية الرئيس, لأنها تنعكس على رؤيته لكيفية التعامل مع المثقفين والسياسيين . ولعل العفو عن الكاتب الصحفى المتألق إبراهيم عيسى( رئيس تحرير الدستور ), فى مقابل التسويف لمدة طويلة فى الإفراج الصحى عن الدكتور/ أيمن نور ( رئيس حزب الغد ) يشير إلى عدم الاهتمام بالكلمة والمثقفين, فى مقابل القلق الزائد عن الحد من السياسيين . فسياسة الرئيس مبارك القائد العسكرى أن )السيف أصدق إنباء من الكتب ( , وبالتالى لا توجد مشكلة فى أن يتكلم الناس, ولكن المشكلة أن يبدأ الكلام فى التحول إلى فعل . وهذا يوضح بأن كل ما يتم الترويج له باعتباره حرية غير مسبوقة للتعبير , ناتج عن عدم قلق من الكلمة ( سيبوا الناس تتكلم ) طالما لم تتحول إلى فعل قد يصب فى مصلحة أى تيار سياسى معارض.
5- الخبث السياسى :
يُنسب إلى وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس ؛ تصريح شهير قالت فيه الآتى : ( منطقة الشرق الأوسط موبوءة بالخبث والاستبداد والتعصب والكراهية ). ولعل هذا التصريح يكفى لكى تنال كونداليزا رايس بموجبه جائزة نوبل فى السياسة لو كانت توجد مثل هذه الجائزة. لأنها بذلك الوصف العبقرى لخصت واقع المنطقة . فالخبث والاستبداد هما أمراض حكام المنطقة, والتعصب والكراهية هما أمراض شعوبها.
وربما يشرح لنا تصريح شهير للرئيس مبارك المغزى الذى نقصده من الخبث السياسى. فقد علق الرئيس مبارك على شكوى البعض من قيام المرشحين لانتخابات مجلسى الشعب والشورى بتقديم رشاوى مالية للمواطنين , بأن قال : ( ياخدوا فلوسهم وينتخبوا غيرهم ) .
وبالتالى ؛ فإن ميراث الخبث السياسى فى المنطقة ؛ قد علم الرئيس مبارك بأن الشعب المصرى عاطفى؛ تجمعه صفارة وتفرقه عصاية . وبالتالى هو شعب ضعيف الذاكرة, مما يتيح القدرة لأى رئيس على قول الشئ وفعل عكسه على طول الخط . ربما تؤكد كثير من الممارسات فى عهد الرئيس مبارك هذا الخط , لأن الرئيس وبعد 29 سنة فعل كل ما أكد انه لن يفعله , ولم يفعل حتى الآن كل ما كنا نحلم بأن يفعله . ( ربما يكفى مثال واحد لتنشيط ذاكرة الشعب الضعيفة يتعلق بتصريح الرئيس مبارك في بداية فترته الأولى , بأنه لن يجلس في الحكم لأكثر من فترتين ).
6- التشبث بالسلطة :
يعتبر التشبث بالسلطة مرض عضال يعانى منه كافة الحكام فى أغلب دول منطقة الشرق الأوسط, باستثناء لبنان وإسرائيل. وبالتالى فعندما تراجع الرئيس مبارك عن وعده بعدم الاستمرار فى الرئاسة لأكثر من فترتين, كان يفتح الباب لمرض التشبث بالسلطة لكى يتقاسم معه الحكم .
فلماذا أصبح الرئيس مبارك لا يستطيع أن يرى نفسه بعيدا عن السلطة. البعض يقول : لأنه صار يحب مجده الشخصى أكثر مما يحب وطنه , وبالتالى لم يعد يرى المجد فى الحرية والديمقراطية مثلما فعل زعيم مثل مهاتير محمد فى ماليزيا , وإنما يراه فقط فى التشبث بالسلطة .
والبعض الآخر يقول : بأن الرئيس مبارك يريد بأن يحتكر كل الشرف لنفسه, ولا يرى أى مصرى آخر جديراً بأن ينال مثل هذا الشرف , المتمثل فى حكم مصر وتحقيق الرفاهية والتنمية والعدالة والديمقراطية لشعبها .
هذا ما يقوله البعض, ولكن ترى ماذا يقول الرئيس مبارك لنفسه بعد 29 عاماً من حكم مصر بدون شريك.
—————
إذن .. بعد كل ما فصلناه عن شخصية الرئيس مبارك , هل يصح لنا أن نصف الرئيس بأنه ديكتاتور ( وفقاً للمصطلحات السياسية السائدة منذ عصر الإمبراطورية الرومانية ).
للأسف ؛ وبكل المرارة .. الرئيس مبارك ديكتاتور , ولكن هناك نوعين لشخصية الديكتاتور , هناك ( الهارد ديكتاتور ) , وهناك ( السوفت ديكتاتور ) .
الطراز الأول ( الهارد ) يمثله زعماء مثل صدام حسين وحافظ الأسد وموسولينى وهتلر وستالين والحجاج بن يوسف الثقفى .. إلخ .
ولكن الرئيس مبارك من النوع الثانى , الديكتاتور الناعم البسيط المبتسم التلقائى ابن النكتة, المتشبث بالسلطة بأقل درجة من العنف الكافى للاحتفاظ بها .
ولكن .. الخوف – كل الخوف – أن يتحول الرئيس مبارك مع تعاظم حركات الاحتجاج إلى هارد ديكتاتور , لأن النتائج وقتها ستكون كارثية, والثمن الذى سيدفعه الشعب سيكون باهظاً .
ولكن ربما تكون هذه النتائج الكارثية والثمن الباهظ ؛ هما بداية النهاية لحكم الرئيس مبارك . ولكن بعد كم وثلاثين سنة .. الله وحده أعلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
( أَو َلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ) صدق الله العظيم
****
دكتور / محمد محفوظ