إن حصان الأمن أصبح أعمي يسير علي شفا حفرة من نار وهو يكبو ويعتدل و لم تبق أمامه إلا بعضًا من الخطوات القليلة فلو كبي سيهوي في حفرة النار و سيتبعثر و لن تقوم له بعد قائمة، بتلك الديباجة قدم المؤلف كتابه "يوميات ضابط شرطة في مدينة الذئاب" وأهمية الكتاب تنبع من طبيعة عمل المؤلف ، كضابط شرطة سابق ترقي حتي وصل لرتبة العميد ، وبالطبع خدم وعاصر مواقع وأحداث شتي من المثير القرأة عنها ، يبدأ الكتاب الذي يتخذ الأسلوب القصصي منذ اليوم الأول لطالب كلية الشرطة تحت عنوان "إعداد الضابط" لم يطق العميد محمود قطري الصمت طويلاً .. فما أن أحالته وزارة الداخلية إلى المعاش حتى صرخ بما رآه بعينه طوال 24 عاماً هي مدة عمله بالشرطة منذ تخرجه عام 1977.
فضح محمود قطري في كتابه.. سياسات الداخلية في التعامل مع أمن مصر، وكشف بالتفاصيل ـ المرعبة ـ كيف يتم انتهاك حقوق المواطن يومياً، وكيف تلفق التهم للأبرياء، وكيف يمارس الضباط التعذيب الذي أصبح منهجاً وحيداً لوزارة الداخلية في التعامل مع المواطنين، وكيف تزور الانتخابات ومعها إرادة المصريين .. وبدلا من أن تخجل الداخلية ـ مجرد الخجل ـ من الوقائع التي فضحها "قطري" وكان شاهداً عليها.
وبدلا من أن يستمع أحداً من أركان النظام الحاكم إلى ما قاله ويأمر بفتح ملف الأمن في مصر .. "تمت جرجرة" محمود قطري إلى النيابات والمحاكم لعقابه على ما كشفه وليصبح عبرة لكل من يفكر ـ مجرد تفكير ـ في أن يرتفع صوته في وجه جبروت الداخلية.
ونترككم مع ملخص الكتاب.
بقلم: العميد محمود قطرى
لنبدأ من البداية، من كلية الشرطة حيث المفترض أن يتم إعداد الضباط لحماية الوطن وهنا بالطبع لا نقصد الشعار المراوغ لوزارة الداخلية الشرطة والشعب فى خدمة الوطن ولكن الوطن هو الناس بالتحديد ولا شيء غير الناس. المهم أن المؤلف يقول نصيحة غالية وهى إذا التحقت بكلية الشرطة عليك أن تخلع كرامتك على البوابة وعند خروجك ارتديها مرة أخرى إن حالفك الحظ ووجدتها. فهذا أول درس يتعلمه ضابط المستقبل بعد أن كلف أهله مبالغ طائلة للتوصية، وجهدا خرافيا بحثا عن واسطة، فعليه الطاعة العمياء وقبول إهانات شخصية فظيعة وتعلم أشياء لا علاقة لها بحفظ الأمن، ولكن أشياء الهدف منها تحطيمه معنويا حتى يصبح عبدا مطيعا وخادما لرؤسائه مرورا بالوزير وانتهاء بالحكومة ورئيس الجمهورية .. أى نقله من خانة البشر الى خانة الجماد، مجرد عصا غليظة فى يد من لا يرحم وهم قادته والحكومة المستبدة.
فالشاويشية -وهم الطلبة القدامى فى السنة النهائية- يستقبلون زملاءهم الجدد بالعنف والشتيمة اجرى يا عيل، اجرى يا ...... وهذه يسمونها شتيمة ميرى، يعنى رسمية مسموح بها ومفيهاش أى حاجة ولا أى غلط، وطبعا ياويله ياسواد ليله الذى يعترض، فالعبيد لا يعترضون، ولكن ينفذون بدون أى تفكير. ويظل الطالب المسكين فى أول يوم له يجرى وهو يتسلم ملابسه وأدواته الميرى الجديدة ويظل يجرى ويجرى حتى يصبح عصير من العرق والقرف والتراب والغبار. وهذا يسمونه فى الكلية الصدمة الأولى حتى ينتقل الطالب من الحياة المدنية الى الحياة العسكرية .. فهل العسكرية تعنى الإهانة والبهدلة، أم الرجولة والشرف؟!
السؤال من المؤلف ولا إجابة طبعا من زعماء الداخلية والحكومة المستبدة، فهم لا يريدون بشرا من لحم ودم ولكن عصيان غليظة.
ويبدأ الشاويشية فى تعليم الطالب كيفية ارتداء ملابسه وفرش سريره وترتيب دولابه ولكن بحدة وعصبية وشتيمة لا مبرر لها. والطريف حتى تعرف الاهتمامات التعليمية فى الكلية أن الشاويشية اختلفوا فيما بينهم- كما يحكى المؤلف - على وضع فرشاة الحلاقة، هل هى يمين ماكينة الحلاقة أم على يسارها وبعد مناقشات تشعرك أنهم يناقشون ترسيم حدود الدولة قرروا أن تكون على يمينها، فهل هذه العقليات يمكن أن نأمن على شبابنا معها؟!!
وفى المطعم يسمونه الميس الأكل فى منتهى السوء، فالطهى رديء جدا، وأشهر الأصناف الكفتة وهى كتل مكببة براحة اليد وأرز مليء بالحصى، وأحيانا يطبخون الملوخية كما هى بعيدانها، وفى إحدى المرات وجد أحد الطلبة فأرا ميتا ومطبوخا فى طبقه. وقد حدث فى إحدى المرات حالة تسمم للطلبة وحضر الضباط والقيادات من بيوتهم وجاءت عشرات من سيارات الإسعاف وتم نقل الطلبة الى المستشفيات وتردد أن مساعد الوزير سيأتى للتحقيق، ونظفوا كل شيء وجاء الرجل ومر وشكرهم على هذه النظافة! يعنى طظ فى حياة الطلبة، وعاد الطعام كما كان فى منتهى السوء. ناهيك عن دخول أى رتبة مهما كانت صغيرة الى المطعم معناه التوقف الفورى عن الطعام وهذا يمكن أن يحدث عشرات المرات ويا ويله يا سواد ليله من يضبطونه يكمل مضغ الأكل، فيأمرونه بأن يقف على الكرسى الذى يجلس عليه ويقول بصوت جهورى أنا طفس أنا مفجوع وفى أحيان أخرى يجعلونه يحمل فى يده مغرفة أو رغيف خبز ويجرى بالخطوة السريعة بين الترابيزات وهو يصرخ أنا المفجوع اللى أكلت أكل زمايلى .. يعنى لابد من الإهانة وكسر كرامة الطالب لخطأ تافه، رغم أن التدريبات الشاقة تحتاج الى كمية جيدة ووفيرة من الأكل، فان وقت الطعام لا يتعدى ست دقائق ومع ذلك فممنوع منعا باتا تعامل الطلبة مع الكانتين.
وفى المساء تقام حفلات السواريه التى تهدر فيها كرامة الطلبة ويهدر فيها المنطق وكما يقول المؤلف أبدان تتسلط على أبدان .. فيقوم الشاويشية بهجوم كاسح على العنابر التى ينام فيها الطلبة، بالشتائم الميرى يبعثرون محتويات الدواليب ويأمرون الطلبة بأن يضع كل واحد وجهه فى دولابه وأن يجرى فى مكانه ومن يرمش بعينيه يعاقب بتمارين رياضية قاسية لمدى زمنى غير محدد حتى لو انهار ووقع على الأرض.
وفى الاستيقاظ يمسك الشاويش بحذائه ويرزع به على الدولاب بعصبية وبصوت فظيع مع وصلة الشتيمة المعتادة ويقف كل واحد أمام دولابه حتى يتم عدد الطلبة، ثم يعطيهم ثلاث دقائق لكى يقضوا حاجتهم ويغتسلوا ويحلقوا ذقونهم ويرتدوا ملابسهم ويصطفوا خارج العنبر .. هل هذا ممكن؟! بالطبع مستحيل ومع ذلك يعاقب من يتأخر بالجرى مثلا حول الطابور لمدة تصل أحيانا الى ساعة إلا الربع!
ويحكى المؤلف أنه بسبب سوء طعام الكلية وتحريم التعامل مع الكانتين أخفى علبة بسبوسة فى ملابسه وعندما جاع اخرج قطعة وأكلها وشاهده الشاويش يحرك فمه وكانت النتيجة بخلاف الشتيمة والإهانة التمارين العقابية البشعة وبعثرة دولابه والجرى فى العنبر متخطيا الأسرة كحواجز وإلقاء المراتب من الدور الرابع الى الشارع حتى يحملها من تحت الى مكانها الطبيعى، ثم يرميها الشاويش وهكذا حتى يشبع الشاويش من الإهانة، ولم ينقذ المؤلف سوى أن ساعة النوم الرسمية قد حانت، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فلقد ظل لمدة شهر يعاقب بالتمارين العقابية، وهنا يقول جملة دالة كرهت الشاويشية وكرهت الطلبة وكرهت الكلية وكرهت نفسى. فهم لا يربون رجالا ولكن عبيدا يطيعون أى أمر أيا كان.
يشير المؤلف الى أن هذه الإهانات والبهدلة يعتبرها قيادات الداخلية جزءا أساسيا من العملية التعليمية فى الكلية مدعين أن هذا يهيئ الطالب للحياة العسكرية، فهل هذا له علاقة بأى عسكرية أو بأى نظام تعليمى فى الدنيا.
أما التدريبات الحقيقية فتتركز على طوابير المشاة رغم أنها مسألة شكلية تماما يستهلكون فيها وقتا وجهدا كبيرا، فالضابط فى حياته الوظيفية لن يمشى خطوة معتادة، واذا كانت هناك ضرورة لتعلمها فلا يجب أن تستهلك كل هذا الوقت والعرق. ولا يقتصر الأمر على تحطيم كرامة الطالب، ولكن الخطوة الأخرى المهمة هى زرع الخشونة والعنف فى شخصية الطالب ضد زميله الطالب،فلا شيء يمكن احترامه حتى الزمالة والصداقة، ففى مباريات الملاكمة على سبيل المثال لابد أن يصل العنف الى أقصى مدى، فقد اتفق طالبان على أن يتلاكما فى الجسد دون الوجه فهددهما المعلم بالرسوب، وكانت النتيجة أن تحول تعليم فنون الملاكمة الى حرب بالأقدام والأيدى وكل الوسائل حتى سال الدم .. وكأننا فى حلبة رومانية التى كان فيها القتال بين العبيد يتم حتى الموت حتى يستمتع السادة. وفى هذا المناخ كما يقول العميد محمود قطرى من المستحيل أن تنشأ علاقات إنسانية طبيعية بين ضباط المستقبل، ولكنهم يتحولون الى عبيد يتنافسون فقط على إرضاء سيدهم القادة فى الكلية وبعدها القادة فى الوزارة.
حكى المؤلف تجربته عندما كان بلوكامين سرية فقد كان يعامل الطلبة الجدد معاملة حسنة عقلانية، يطمئن الخائفين ويسمح لهم بالجلوس على الأسرة وسمح للطالب بحمل الأطعمة الى العنبر بشرط أن يعطى زملاءه ولا يستخدم العقاب إلا فى المخالفات الجسيمة وكانت النتائج ممتازة، إذن فلا حاجة لسحق كرامة الطالب.
يدرس الطلبة فى كلية الشرطة أو الذئاب كما يسميها المؤلف ليسانس الحقوق، وهى تعرف الطالب حقوقه وواجباته، كما أنه يدرس فى سياقها فلسفة وعلم نفس ومنطق وغيرها ولكن هذا ليس هو الأساس. أما المواد الشرطية فهى ساذجة وسطحية وعشوائية وتعتمد على وجهة النظر الشخصية لمدرسها، فمثلا فى درس السوارى يقف المعلم ويقول: يا افندية الحيوان اللى قدامكم ده اسمه حصان يتكون من أجزاء ... الخ. وكانوا يبررون هذه الدراسة العظيمة بأن هناك أماكن لا تصل اليها السيارات ربما لأنهم لم يسمعوا عن السيارات صغيرة الحجم.
ولا يوجد اهتمام علمى حقيقى بالمواد الشرطية ومنها مثلا البحث الجنائى، فلا توجد أبحاث علمية وقواعد مستقرة ولكن كل أستاذ يقول على مزاجه ما يشاء ولا يحاسبه أحد .. وربما السبب فى أن قيادات الداخلية لا يعتبرون أن مهمة جهاز الشرطة الأساسية هى مقاومة المجرمين ولكن سحل المعارضين فى السجون والشوارع، ومن هنا التركيز المرعب على القسوة الداخلية والتدريبات البدنية العنيفة.
واذا لم تكن غنيا أو مسنودا ولك ضهر فان المؤلف ينصحك بعدم الالتحاق بكلية الشرطة لأنهم لن يقبلوك، واذا حدث المستحيل ودخلتها فستعيش طوال عمرك الوظيفى قرفان ومحبطا، لأنك ومنذ العام الأول لتخرجك ستحتاج لمن يتدخل لكى يتم تعيينك فى مكان مناسب وكل سنة تحتاج لمن ينقلك الى مكان مميز وتحتاجه حتى لا يتم نقلك من هذا المكان المميز. ونفس الأمر للحصول على المناصب والترقيات ويتحدى المؤلف بأنه لو تم عمل إحصاء فلن تجد ولو ضابطا واحدا فى مكان مميز أو منصب مرموق إلا لو كان مسنودا. فلا أحد فى هذا الجهاز يستند إلى مجهوده وكفاءته حتى يترقى ويحصل على المكافآت، وهذا يعود بنا الى نصيحة العميد قطرى وهى انك إذا كنت ضابطا عاديا يعنى غير مسنود، فلابد أن تكون من أسرة ميسورة الحال حتى تستطيع أن تنفق على نفسك وعلى أولادك لأن المرتب لن يكفيك مهما فعلت، طبعا بالطرق الشريفة.
وينتقل المؤلف الذى عمل لسنوات طويلة فى جهاز الشرطة حتى وصل الى رتبة عميد الى تفاصيل العمل فى وزارة الداخلية وهى مخيفة ومفزعة، فقد اختفى من مصر عسكرى الدرك الذى كان يجوب الشوارع بصرخته الشهيرة مين هناك ليوزع الأمن بالعدل بين الناس فى المنطقة المسئول عنها والتى يعرفها جيدا، بل ويعرف أهلها، فقراء وأغنياء، أما الآن فقد خصخصوا الأمن الذى هو حق طبيعى لكل البشر، يخصصون مجموعة عساكر لحراسة البنك الفلانى أو الشركة الفلانية أو من يدفع مقابل أجر باهظ يتم توزيعه على المدير والأعوان المسنودين والضباط المنافقين ولا يأخذ العسكرى الغلبان سوى الفتات. ووصل الأمر الى درجة إنشاء إدارات شرطة متخصصة فى حراسة المنشآت التى تدفع ويسميها الضباط إدارات طرية يتقاتل المسنودون للعمل فيها لأن نعيمها لا حد له.
ويشرح المؤلف بمرارة معاناة ضباط الشرطة، فظروف تشغيلهم عشوائية لا تحكمها أى قواعد وتقلد المناصب فى الداخلية بالمحسوبية، والثواب والعقاب لا منطق وسلطات القيادات الأعلى شبه إلهية، والمعاش المبكر جعل الضباط مرعوبين، فهم يخافون العقاب الإدارى وغضب القيادات، فيفعلون أى شيء بما فيه طبعا أن يدوس على رقاب خلق الله لأن رئيسه يمكنه أن يدمر حياته ببساطة شديدة وبدون حتى أسباب، يعنى لو شكل الضابط معجبهوش، فرضا الرئيس فى الداخلية -كما يقول المؤلف- من رضا الرب، فهمسة الرئيس مقدسة حتى لو كانت مخلة بالشرف والأمانة.
ولأن الثواب والعقاب بلا أى منطق، فإن الضابط يضطر الى التلفيق والكذب وفعل أى شيء حتى ينجو بنفسه، وعلى سبيل المثال، فلو أن رئيس مباحث القسم أو المركز مثلا قام بضبط 30 قطعة سلاح نارى بدون ترخيص، فعلى الضابط الجديد الذى حل مكانه أن يضبط نفس النسبة على الأقل، وإن زادت يكون أفضل، ولكن لو ضبط أقل منها لو قطعتين، فهذا معناه ضعف مجهود بتعبير القيادات وقد تتم إحالته الى التحقيق أو نقله أو عقابه، فماذا يفعل الضابط المسكين إذا لم يجد قضايا إحراز سلاح حقيقية؟!
الإجابة المفزعة هى أنه يضطر الى تلفيق تهم إحراز سلاح بدون ترخيص لخلق الله الغلابة طبعا إللى ملهمش ضهر وغالبا ما يأخذون براءة فى المحكمة لأنه استقر فى يقين القضاة أن معظم -إن لم يكن كل- هذه القضايا ملفقة.
والمصيبة أكبر إذا كان الضابط يعمل فى مكافحة المخدرات ومطلوب منه مقطوعية ويلجأ الضابط الى المرشد الذى يعمل معه حتى يستدرج أى شخص إلى أى مكان ومعه مخدرات مدسوسة عليه حتى يقبض عليه ويغيب فى غياهب السجون.
وكان هناك ضابط مباحث من عادته أن يحضر مواسير مياه ذات أقطار مختلفة ويرسل المخبرين بها الى ورش السلاح غير المرخصة لكى يحولوها الى خرطوش أو فرد روسى، يعنى مسدسات، حتى يتم حسابها ضمن مقطوعيته التى لابد أن يقوم بها، ويبحث طبعا عن الذين سيتم تلفيق القضايا لهم وغالبا يكونون من المجرمين أصحاب السوابق، ويفعل كل ذلك حتى لا يضيع مستقبله الوظيفى، أى يضحى بأبرياء ويشجع على الجريمة حتى يحمى نفسه، وكان هذا الضابط يكلف تجار السلاح بإحضار بعض القطع نظير أن يتركهم يمارسون أعمالهم دون إزعاج، وهى تجارة الموت، ويفرض عليهم حمايته الشخصية، فإذا قرر ضابط القبض على واحد منهم يقولوا له بلاش لأنه مرشد الباشا فلان وطبعا يتركه حتى لا يعرض نفسه لثورة الضابط الكبير.
يشرح العميد قطرى أن المحسوبية تصل فى جهاز الشرطة -أو كما يسميه مدينة الذئاب- الى درجة أن أحد الضباط المسنودين وكان برتبة ملازم أول عينوه فى منصب مرموق فى ديوان الوزارة وكان تحت إمرته 14 سيارة شرطة بأرقام ملاكى، وكان مع عسكرى المراسلة الخاص به سيارة يتسوق بها للباشا، يعنى يجيب الخضار ويودى العيال المدارس وغيرها. وتجد فى مكتب صغير سبعة عمداء يتناوبون على سيارة متهالكة بتعطل أكثر ما بتمشى.
والضابط يفرح جدا لو تم تعيينه رئيس مباحث قسم أو مركز ويغضب إذا عمل فى إدارة الشعبة نفسها، لأنه فى الحالة الأولى يتعامل مباشرة مع الجمهور، فكل طلبات الباشا مجابة، لو طلب سيارة فسيجدها أمام باب القسم، وقد أهدى أحد المقاولين شقة لرئيس مباحث -الرواية للمؤلف- وأهداه مقاول آخر كل الأثاث، ولذلك لا يسعى الأثرياء الى رشوة بعض الضباط فقط، ولكن بعضهم يشترى الأثاث لبعض إدارات أقسام الشرطة ويزين المبانى من الخارج. ويستخدم بعض الضباط نفوذهم لدى المحليات للتجاوز عن جرائم مثل تعلية ادوار ومخالفة مواصفات وغيرها وغيرها وخاصة عندما يكون هو نفسه قد حصل على شقة هدية فى أحد الأبراج.
ولذلك يتقاتل الضباط على هذا الموقع ولكن لا يعين فيه سوى المسنود فقط. وبالطبع لأنه مسنود فهو لا يحاسب ولا يعاقب، فى حين أن زملاءهم الغلابة يذوقون الأمرين. واذا حدث واضطر قيادات الداخلية لعقاب واحد من المحاسيب، فإن العقاب يكون مزيفا وصوريا. ويروى المؤلف واقعة تؤكد ذلك، فقد اختلف محافظ مع مدير أمن، فلفق الثانى لأحد أقرباء الأول عشرين قضية جنائية حتى يتم تسجيله شقى خطر ويتم اعتقاله، ولكن وكيل النيابة لم يقتنع واخلى سبيله، فأسرع مدير الأمن ورجاله وحاصروا مبنى النيابة حيث اختبأ الرجل المسكين ولكنهم اعتقلوه وعندما افتضح الأمر تدخل وزير الداخلية وعاقب مدير الأمن ورجاله بنقلهم الى أماكن متميزة .. إنه عقاب الحبيب للحبيب، ولابد أن يضع القارئ الكريم فى اعتباره أن الشخص الذى حدث معه ذلك قريبه محافظ يعنى وزير قد الدنيا، فما بالك لو كان مواطن غلبان.
ويروى الكتاب إجواء حركة تنقلات ضباط الشرطة التى تصيب الجميع بالرعب، فقبلها تجد كل واحد منهم يبحث عن ظهر، والمسنود فيهم تجده مشغولا بالتليفونات والاتصالات، وغير المسنود -لو كان شاطر- يتعرف قبلها على لواء من الكبار ويصبح تابعه المطيع، ينفذ رغباته قبل أن ينطق بها، ويعرف تاريخ عيد ميلاده و ميلاد الهانم والأولاد، ويختار مناسبة يأخذ معه عدة جنيهات من الذهب ويزور الباشا.. وقبل حركة التنقلات المخيفة يزوره ويطلب نقله الى مكان مميز، صحيح أن هذا الضابط يخسر المال ولكن هذا استثمار، فهو يحقق أضعافه عندما ينقله الباشا الى أحد الأماكن الطرية كما يقولون فى الداخلية.
واذا عرفت أن التنقلات قد تحدث أربع أو خمس مرات فى العام الواحد، فهذا معناه تدمير الحياة الأسرية للضابط ومن هنا نلتمس العذر لمن يلجأون الى أى وسيلة ليحموا أنفسهم -الكلام للمؤلف - وخاصة إذا عرفنا أنه بخلاف حركات التنقلات المعلنة هناك حركات نقل تتخذ كإجراء عقابى رغم أن القانون يحرم ذلك ولكنه اصبح هو العقوبة الحقيقية للضابط.
وهنا يسأل قطرى بمرارة: كيف يتسنى للضابط أن يمنح الأمن والأمان للمواطن وهو نفسه لا يجدهما حيث يتم نقله وخراب بيته لأتفه الأسباب.
فقد فوجئ أحد الضباط بنقله الى منطقة نائية وعندما ذهب ليتظلم قالوا له إن هناك تقريرا سريا يؤكد أنك على علاقة صداقة مع بائع فول!! فرد الرجل: وماذا فى هذا، هل الفول منعوه؟! فرد عليه رئيس اللجنة: بائع الفول ليس على المستوى الذى يصح أن تصاحبه. وخيره بين أن يختار المكان الذى تم نقله إليه أو مكان أبعد؟!
وضابط آخر ظل طوال مدة خدمته يتمنى أن ينقلوه ولو لمدة عام واحد الى موطنه فى المنطقة الساحلية حتى يلم شمل أسرته ولكن وكما يقول المؤلف: دخول جنة رضوان أسهل من النقل الى أى منطقة ساحلية، فهى قاصرة على المسنودين.
المهم أن هذا الضابط ضج وقرر التظلم فرفض رئيس اللجنة طلبه صارخا: إحنا معندناش خيار ولا فاقوس. فانفعل الضابط قائلا: أليس من العدل يا باشا أن تعاملنى مثل ابنك وهو موجود الآن فى إعارة خارج البلاد، ونحن تخرجنا معا ولا يوجد فرق بيننا سوى أن سيادتك مساعد لوزير الداخلية.
وتكهرب الجو وذهل الجميع للحظات .. ولكن أحدهم استعاد أنفاسه، وقال: هذا الكلام عيب ولا يصح أن يقال ويجب أن تعرف أن كل ضابط يتم معاملته طبقا لقدراته. وأضاف: عموما نفذ النقل وأعدك فى حركة التنقلات القادمة سوف أنقلك الى المنطقة الساحلية.
وبالطبع هذا لم يحدث وخرج الضابط المسكين وهو يردد: حسبى الله ونعم الوكيل.
ويصل التنكيل بالضباط الى درجة لا يتصورها عقل، فقد كان وزير داخلية سابق عندما يغضب على ضابط ينقله الى ما يسمونه المنطقة الثانية ولما سأله أحد رجاله: لماذا لا تنقله الى غياهب المنطقة النائية؟ فرد عليه: يا غبى فى المنطقة النائية سيقضى مدة محددة ثم يعود، لكن فى المنطقة الثانية يمكن أن يقضى كل مدة خدمته. وبذلك لا طال المنطقة الأولى حيث يعيش فيها مع أسرته وأولاده، ولا طال منطقة نائية يعود منها بعد سنوات محددة ويكون له حق النقل بعدها.
وبسبب هذه الوحشية فى التعامل مع الضباط غير المسنودين يتم تشريد أسرهم ماديا ومعنويا وتدميرهم كبشر ولا توجد جهة أو نقابة تحميهم، فهم عرايا بصدورهم فى وجه ظلم فظيع وغير إنسانى، كما أن الإعلام لا يهتم بهم وبمشاكلهم، أى تفترسهم الداخلية فى السر والظلام.
ويعتبر المؤلف أن المعاش المبكر هو القنبلة التى انفجرت فى قلب الداخلية، فألقى بذوى الخبرة الى الطريق العام وابقى على المسنودين الذين هم فى الغالب قليلو الخبرة وفاسدون، فالمأمور الجاد الذى ينجح فى فرض الأمن بالإصلاح بين المتخاصمين واستخدام الأساليب القانونية فى تأديب المنحرفين دون إهدار كرامتهم قد يفاجأ الجميع بأنه أحيل للمعاش المبكر بسبب خلاف شخصى مع واحد من رؤسائه النافذين أو واحد من المليونيرات الكبار أو أمسك بمجرم له علاقات أو لأن أحد المسنودين طمع فى موقعه.
ولذلك فهذا النظام تستخدمه القيادات فى تخويف الضباط، ولو كان هذا لصالح المواطنين لهان الأمر ولكنه يتم لصالح الكبار، فاللجنة المسئولة عن ترقية الضباط ومد خدمتهم يتم تبادل المصالح بين أعضائها يعنى شيلنى واشيلك .. وحتى يؤكد المؤلف صدق كلامه فانه يطالب بمقارنة ملفات المحالين إلى المعاش بالموجودين فى الخدمة، فهناك من استمر فى الخدمة رغم اتهامهم بتهم مشينة، منهم واحد اختلس 15 ألف جنيه من بونات البنزين وتمت إدانته ولأنه مسنود عاقبوه بالنقل الى منطقة ساحلية ووضع مميز. وآخرون سرقوا 5 كيلو ذهب وهم يفتشون أحد البيوت وتمت ترقيتهم الى مواقع مرموقة.. وثالث كان يروج عملات مزيفة مستخدما العساكر الذين تحت إمرته ولكن والده الباشا سوى الأمر وديا .. وعاشر أطلق الرصاص على مواطن بريء كان يركب سيارة لأن السائق لم يتوقف للتفتيش لأنه لا يحمل رخصة واسرع مدير المباحث واحضر بندقية آلية واطلق منها الرصاص ووضعها بجوار الجثة حتى يقولوا إن القتيل قاوم رجال الشرطة وبالطبع شهد أفراد الكمين بذلك وبالطبع فالضحية مواطن فقير وغلبان ولكن لو كان مسنودا أو ثريا مهما كان مصدر أمواله فانه يجلس فى مكتب أى قيادة كبيرة فى الداخلية ويأتى بالضابط الذى ضايقه ويمسح به البلاط أمامه وقد يحوله الى تحقيق فورى.
وبسبب عدم شعور الضابط بالأمان فى عمله فان السائد بينهم هو ضرورة عمل مشروع خاص يؤمن له حياته أو يتعلق بأهداب الأغنياء عشان يعمل قرشين للمستقبل أو حتى يشتغل عندهم بعد خروجه من الخدمة.
ورغم أن نظام المعاش المبكر يطيح فى الغالب بالشرفاء إلا أنه طوق نجاة لكثيرين حتى يتخلصوا من عبودية وزارة الداخلية حتى إن المؤلف الذى كان عميدا يقول إن الحياة خارج الشرطة جنة يتنفس فيها الحرية ويطمئن زملاءه الموجودين بالخدمة أن المواطنين ليسوا مجرمين كما تقول لهم الوزارة ، فأغلبهم طيبون وهادئون.
والغريب فى جهاز الشرطة أن خطأ الضابط يظل يحاسب عليه حتى يموت، يعنى يظل فى ملفه حتى بعد مرور المدة القانونية على عقابه، ويمنعه من الترقى، واحيانا يكون الخطأ تافها مثل الخصم ثلاثة أيام لوجوده فى دورة المياه أثناء خدمته فى مباراة كرة قدم ،ناهيك على أن الضابط هو الإنسان الوحيد فى العالم الذى يحاكم على نفس الجريمة مرتين، مرة بالقانون العادى مثل أى مواطن ومرة بقوانين الشرطة التى لا تغفر الذنوب حتى لو كانت ظالمة. ولا يتوقف نوع العقاب الذى يتعرض له الضابط على جسامة الخطأ ولكن على أهمية منصب من ضبطه، فالخطأ الذى يكتشفه الوزير معناه المحكمة التأديبية -التى كثيرا ما يملى عليها التعليمات أكثر مما تطبق القانون- وقد يصل الأمر إلى الإعدام الوظيفى بالفصل من الخدمة، واذا اكتشف الخطأ رتبة صغيرة فقد يقتصر الأمر على مجرد الإنذار أو الخصم واذا ذهب الضابط الى لجنة التحقيق للدفاع عن نفسه فى الغالب لا يسمعه أحد.
وفى أحيان كثيرة تتصيد لجان التفتيش الأخطاء، لأن أعضاءها أو القائم بعملها اذا لم يدون مخالفات فهذا معناه أنه مهمل ومن الممكن أن يعاقب هو، وفى هذه الحالة فمن الأفضل له أن يتسبب فى خراب بيت الذين يفتش عليهم. فأحد القيادات كما يروى المؤلف كان يفتش ولم يجد أى خطأ ولكن ربنا أكرمه كما قال لأن ضابطا تأخر لمدة خمس دقائق عن موعد الدورية وحتى يزيد حجم المخالفة تعمد تأخير هذا الضابط المسكين عن موعده ربع ساعة كاملة ولذلك تجد كل واحد من هذه القيادات يستعرض ذكاءه فى اصطياد الضباط وعقابهم.. إنها عقلية المماليك، العقلية السادية التى تستمتع بخراب بيت من هم اضعف منه.
إن الجميع ضباطا وأفرادا يتربص كل واحد منهم بالآخر، حتى اذا حانت الفرصة ينقض على زميله حتى يرضى عنه رؤساؤه ويفخر بما فعله، انهم جميعا خائفون مرتعدون من بعضهم البعض، إنها فلسفة الغدر والخيانة، فلسفة قيادات الشرطة.
ويسأل المؤلف اذا كانت هذه هى العلاقة بين الضباط، فكيف تكون علاقتهم بالمواطن، ومن الطبيعى فى هذه الحالة أن تكون علاقة عدوانية خالية من أى ثقة، جوهرها أن المواطن هو مجرم أولا حتى يثبت العكس، أو أنه مجرم احتاط لتغطية ما فعله.. ومن هنا فان القبض على المواطنين الأبرياء يتم بسهولة حتى تثبت براءتهم وبالطبع لا يتم ذلك إلا مع الفقراء اللى ملهمش ضهر.
وينتقل المؤلف الى اخطر ما فى الكتاب وهو مهزلة التقارير السرية عن الضباط، والتى تتدخل بشكل فاجر فى حياته الشخصية، يعنى فى غرفة نومه وعلى سريره، تطلب منه أن يطلق زوجته بحجة مثلا عدم ملاءمة مستواها الاجتماعى أو المهنى أو الأخلاقى .. وهناك حالات كثيرة، منها الضابط الذى تزوج مطربة واستدعته قيادات الوزارة وأمروه بتطليقها، فى حين أن الوزير نفسه كانت متزوجا من مطربة ولكنها مشهورة. وضابط آخر طلق زوجته بعد خلافات شديدة وتزوج أخرى بعد قصة حب ولكن القيادات طلبوا منه تطليقها لأن مهنتها الشريفة لا تتناسب مع مستوى الضابط الاجتماعى.
وعلى هذا المنوال تُكتب التقارير السرية ضد الضابط وزوجته وأحيانا ما تكون مستندة إلى شائعات وأحيانا يتم تلفيقها بعلم القيادات ويتم عقابه دون تحقيق مثل أن فلانا تزوج من امرأة ساقطة أو مشبوهة، وبالطبع لا تنال هذه التقارير من المسنودين ولكن من الغلابة. والذين يكتبون هذه التقارير عادة ما يتم مكافأتهم، رغم أنها أحيانا تكون ملفقة ومجرد شائعات ويا سعده يا هناه من يتلقفها ويكتبها. والكارثة تكون أكبر اذا اتهم التقرير السرى الضابط بعلاقات نسائية دون تحقيق أو دليل، فتسوء سمعته وسمعة أسرته وينفض عنه المعارف والأصدقاء وتطلب زوجته الطلاق. وتوفر هذه التقارير العجيبة الحجة للقيادات حتى تنقل بعض الضباط من الأماكن المتميزة وتضع بدلا منهم المسنودين.
وكتبة هذه التقارير أباطرة مشغولون بها ويتركون عملهم الأساسى فى المباحث لمعاونيهم ولا ينتقل الواحد منهم الى مكان أى جريمة إلا اذا كان بأمر من رؤسائه أو اذا كان لمليونير أو على علاقة بالقيادات، وفى هذه الحالة لا يحرص فقط على القيام بواجبه فى التحقيق والبحث عن المجرم ولكنه يفعل المستحيل حتى تعود مثلا الأشياء المسروقة الى صاحبها الثرى صاحب النفوذ. وقد طلب أحد رؤساء المباحث من لص مسجل عنده بأن يحضر تليفزيون بمواصفات كذا كذا لكى يعطيه لمسئول كبير تمت سرقة منزله.. وبذلك يظهر أمام رؤسائه بأنه مجتهد حيث قبض على اللص واعاد المسروقات فى وقت وجيز.
ومن الوسائل البشعة للتعذيب عمل حلقات حديد فى السقف ويعلق المواطن الغلبان من رجليه مدلى كالذبيحة حتى يحتقن وجهه ويتلون باللون الأحمر من شدة تدفق دمائه الى منطقة الدماغ وهى وسيلة قاتلة. وضابط آخر عبقرى يوصل سلوك كهرباء عدد التليفون القديمة الى الأعضاء التناسلية، ويعترف المتهم على نفسه ليس فقط من الألم الفظيع ولكن ايضا خوفا على ذكورته.
ويحكى المؤلف تجارب الضرب التى يعلمونها للضباط، ومنها أن تضرب اللطمة بعيدا عن الأذن والعينين، والتعليق له أصول وهى أن تربط يدا المتهم مع بعضهما من الأمام ثم تجلسه القرفصاء وتدخل ركبتيه بين ذراعيه وتأتى بخشبة طويلة وسميكة تدخلها من فوق ذراعيه ومن تحت ركبتيه، فيصبح مكورا ويحمله المخبرون ويضعون نهاية كل طرف على كرسى ثم يضربون المتهم على قدميه اللتين تكونان اعلى من مستوى جسده، ثم يفكونه ويأمرونه بالجرى على البلاط حتى لا تتورم قدماه، واذا حدث ومات المواطن من التعذيب يتم التغطية على الجريمة ويضيع دمه هدرا.
ومن وسائل التعذيب الفظيعة النفخ من فتحة الشرج والوقوف على بطن المواطن بالحذاء وهذا يسبب ألما مخيفا. وفى أحيان كثيرة يقوم الضباط بسجن المواطن فى مكان بعيد عن قسم الشرطة، يعنى فى قسم شرطة آخر أو لدى أحد أحباء الشرطة ومعارفها من الموثوق فيهم حتى لا يصل إليه أحد .. ثم إنهم يكتبون فى دفاترهم أنه خرج مثلا ولا يعرفون عنه شيئا وفى أحيان كثيرة يفعلون ذلك والمواطن مسجون لديهم .ويصف المؤلف محاضر التحرى بالبشاعة- وعنده حق- فهى تتيح للضباط صلاحية سجن أى إنسان، والأكثر سوءا هو الحبس الاحتياطى وهو عار على جبين الشرعية والدستور والقانون، فهو يتيح سجن المواطن يوما أو يومين بدون أى مبرر وكذلك الحبس الاحتياطى الذى يتيح بنصوص قانونية حبس المتهم قبل أن تثبت إدانته مدة تصل الى سنتين، والسبب فى هذا التأخير هو تكدس القضايا واذا تم تحديد الجلسة فبسبب كثرة القضايا وتكدسها وإرهاق القاضى فلا يدرس الأوراق ويأخذ بالظاهر
ويعود العميد قطرى الى السؤال الأهم الذى لابد أن يخطر على بال القارئ الكريم وهو لماذا يفعل الضابط هذا؟
الإجابة أن رؤساءه بمن فيهم الوزير يجبرونه بوسائل كثيرة على أن يأتى بأى متهم حتى يواجهوا الرأى العام بفخر، فهم يهددون الضابط بالنقل أو الخصم أو غيرها من وسائل العقاب غير المنطقية .. وهنا يجد الضابط نفسه مضطرا لأن يفعل أى شيء، فإما أن يضحى بنفسه أو يضحى بأى مواطن غلبان.
ويروى المؤلف واقعة ذات دلالة وهى أن الشرطة قبضت على مشتبه فيهم بعد الاعتداء على شخصية مرموقة بقنبلة يدوية وطبعا بمواجهتهم انهاروا واعترفوا وبعد ستة اشهر وبالمصادفة تم القبض على الجناة الحقيقيين.
وواقعة أخرى، حيث تم الإبلاغ عن فتاة عمرها عشرين عاما اختفت وتم القبض على عسكرى شرطة قيل إنه كان على علاقة بها وبعد التعذيب اعترف المسكين بأنه استدرج الفتاة الى قريته وتناوب الاعتداء عليها هو وأخوه واعترف أيضا بأن أمه طلبت منهما التخلص من الفتاة حتى يخفوا الجريمة وطبعا فرح الضباط وقياداتهم، فقد كشفوا جريمة اغتصاب وقتل وفى زمن قياسى .. ولكن المشكلة أنهم لم يجدوا الجثة .. وبعد شهر عادت الفتاة الى بيتها وتبين أنها كانت غاضبة من أهلها وأنها هربت مع شخص آخر وليس العسكرى المسكين أو أخاه.
ولأن جهاز الشرطة لا يعرف شيئا غير التعذيب لاكتشاف الجرائم، فالجميع ينظر الى الضابط الذى يعذب بمهارة على أنه يبذل مجهودا مضنيا - يا حرام- وبالطبع يستحق المكافأة عليه، ولكن اذا كان حظه سيئا وانكشف الأمر وتحرك الإعلام يضحون بنفس الضابط الذى يتباهون به فى غمضة عين ويقدمونه الى محاكمة ويخربون بيته ويقولون طبعا إنه حالة فردية وأن جهاز الأمن بخير. والغريب أن معظم الضباط يبررون جرائم التعذيب البشعة بالقول اذا كنت أنت المضار من الجريمة هل كنت ستعترض على تعليق المتهم وتعذيبه؟!. ويرد العميد قطرى على هذا المنطق الفاسد قائلا لهذاا الضابط: اذا كنت أنت المتهم، هل ستقبل أن يتم تعذيبك وتعليقك؟! إذن فاحترام الحرية الشخصية سواء لك أو عليك مقدسة.
وهنا يصل المؤلف الى المشكلة الجوهرية وهى ضرورة إجراء تغيير شامل فى فكر وفلسفة أجهزة الشرطة وكلياتها واعداد الطالب بالعلوم الشرطية الحديثة وليس بالتدريب العنيف غير المبرر حتى تحوله الى وحش. وهذا فى رأى المؤلف يحتاج الى تضافر جهود فقهاء أمن وقانون وعلماء نفس واجتماع وغيرهم ويتم اختيار الطلبة من بين الحاصلين على ليسانس الحقوق ويتفرغ الطالب لدراسة العلوم الشرطية والتدريب عليها، والغاء التدريبات التى لا تفيد إلا فى فض المظاهرات ومطاردة عصابات الجبال، أو على الأقل التقليل منها، فالتدريبات الحالية لا تجعل الطالب ضابط شرطة ولكن ضابطا فى القوات المسلحة يواجه أعداء الوطن!!ناهيك عن التعامل بشكل إنسانى مع الطالب والحفاظ على كبريائه وكرامته.
يعود المؤلف الى المستقبل الوظيفى لضابط الشرطة مؤكدا أن القيادات هى التى تحدده بالكامل، فماذا لو كانت هناك خصومة مع أحدهم؟ من المؤكد أن الصورة ستكون بشعة، فقد كان هناك ضابط يعمل فى مكافحة المخدرات وجاءته معلومات أن سائق سيادة اللواء يحمل مخدرات وفتش الضابط ولم يجد شيئا واستشاط اللواء غضبا وكان الحظ الأسود لهذا الضابط أن سيادة اللواء تم تعيينه وزيرا للداخلية وكان من المفترض أن يكافئ الضابط الذى يجتهد فى عمله وينطلق من بديهية أنه لا أحد فوق القانون كما تقول قيادات الشرطة نفسها للصحافة. ولكن هذا لم يحدث ولكن سيادة الوزير سود عيشته هو واللى خلفوه.
الأخطر أن مرتب الضابط لا يكفى الاحتياجات العادية لأسرته ولا يوفر لهم حياة كريمة ولذلك نسمع كثيرا عن انحرافات ورشاوى وقبول هدايا .. وياويله يا سواد ليله الذى يكتب ذلك فى تقريره السرى بالحق أو الباطل، أو من يثبت فعلا أنه اخذ رشوة، أى انهم يدفعونه دفعا الى الرشوة واذا تم ضبطه، أو أثيرت حوله شائعات يذبحونه بلا رحمة. ناهيك عن التهم الفضفاضة التى يمكن أن يواجهها أى ضابط مثل ارتبط بصداقة مع من هم اقل منه فى المستوى الاجتماعى أوالحط من كرامة الوظيفة.
هذه العنصرية الاجتماعية والطبقية يزرعونها فى الطالب منذ اليوم الأول، فإذا لم يكن غنيا أو صاحب نفوذ فلن يدخل كلية الشرطة أصلا وهذا يجعل الشرطة والنيابة وغيرها حكرا على طبقة واحدة ،ناهيك على العنصرية الفظيعة فى محاسبة الطالب على فعل أيا كان قام به قريب له أو جد من جدوده.. وفى كلية الشرطة يطلبون من الطالب أن يفرد جسمه وينظر للأمام ولأعلى ويمشى متعاجبا بنفسه ولا يتلفت يمينا أو يسارا واذا ركب المواصلات يكون فى الدرجة الأولى ولا يجلس على مقهى سواء بملابسه الرسمية أم المدنية ولا يدخل إلا أفخم المطاعم.. ولا يصادق الفقراء .. كل هذا يغير سيكولوجية ضابط المستقبل ويجعله مغرورا يرى كل الناس اقل منه ومن حقه أن يفعل بهم ما يشاء .. وفى نفس الوقت تجعله هذه الطريقة يحترم بل ويخاف من أصحاب النفوذ والأثرياء .. فهم أعلى منه طبقيا واجتماعيا.
ويشرح المؤلف بعدا آخر فى منتهى الأهمية وهو عدم رعاية الضباط لأسرهم بسبب العمل ليل نهار ولوقت غير محدد وتكون المصيبة أكبر اذا كان يعمل فى مكان بعيد عن أسرته، فهو فى هذه الحالة يفتح بيتين بيت أسرته وبيت فى الغربة وقد يظل هكذا طوال عمره الوظيفى.
فهناك اعتقاد كاذب بأن إبعاد الضابط عن محافظته أو مدينته يمنعه من الانحراف وهذا غير صحيح لأن المنحرف سيرتشى فى أى مكان، ثم ما المانع بمعاقبة المنحرف بدلا من بهدلة الشرفاء واسرهم بالنقل والتشريد؟!! ويؤكد المؤلف أن رفع مرتبات الضباط لن يكلف الخزانة العامة مليما، كيف؟
الإجابة: لو تمت المساواة والعدالة فى توزيع المكافآت، فهل منطقى أن يتقاضى مساعد للوزير 200 الف جنيه شهريا فى حين أن هناك ضابطا مرتبه لا يزيد على 400 جنيه؟!
ويروى قطرى واقعة مؤثرة، فقد تعرض ضابط صغير لظلم فظيع ولكنه رفض أن يتقدم بطلب لنقله والسبب هو أنه يتناول فى مكانه ثلاث وجبات على حساب الوزارة وبذلك يوفر ثمن طعامه ويستطيع دفع أقساط شقته التى سيتزوج فيها.
إذن الضابط خائف من النقل وخائف من العقاب الظالم وخائف من أى خطأ لمرءوسيه يتحمله وهو خائف على زوجته وأولاده الذين يعيشون بعيدا عنه وخائف على مرتبه الذى لا يكفى حياة كريمة له ولأسرته ... أى انه خائف خائف.. فكيف يستطيع توفير الأمان للمواطن؟!
وينتقل المؤلف الى مفاجأة مرعبة وهى أن الشرطة تصنع المجرمين، كيف؟
فقد تكونت معاهد سرية غير مرئية تتميز بإنتاجها الوفير من المجرمين المسنودين ذوى السطوة وهم المرشدون، ويلتقطهم ضباط المباحث من المجرمين الذين يتوسم فيهم الخيانة، يقربه منه حتى يوقع بزملائه واحدا تلو الآخر سواء كان مذنبا أم لا حتى يحظى بالرضا السامى للضابط وهذا معناه ممارسة نشاطه الإجرامى فى حراسة الشرطة نفسها، فالضابط يستفيد من القضايا التى يوفرها له المرشد، فمن جهة يغطى الحصة التى يطلبها منه رؤساؤه ومن جهة ثانية يظهر كفاءته وبالتالى ترقيات ومكافآت تعتمد فى الحقيقة على كفاءة المرشد الذى يطالبه الضابط بحصة ايضا من القضايا وهذا يجعله يوقع بالأبرياء أو الذين بينه وبينهم خلافات من أى نوع حتى يرضى سيده. ولا يجوز فى العرف المباحثى القبض عليه لأى سبب ويصل الضباط الى اتفاق وهو أن كل واحد منهم يتغاضى عن مرشد زميله. أما اذا غضب الضابط على مرشده لأى سبب فستكون نهايته حتما فى السجن دون سابق إنذار، والضابط يؤمن بضرورة أن يظل المرشد خائفا حتى ينفذ له ما يريده.
ويفجر المؤلف مفاجأة جديدة وهى أن بعض الضباط يأخذون نسبة من المضبوطات سواء كانت مخدرات أو سلاحا أو غيره وعادة يستعينون بها فى تلفيق قضايا حتى يكملوا الحصة المطلوبة منهم من الجرائم.